أهلاً وسهلاً
بحضورك أشرقت الدار
وبانضمامك الينا
سعدنا كثير وغمرتنا الفرحة
وكلنا شوق لاطلالتك علينا
كل يوم
بحضورك البهي
وما سيجود فيه قلمك
من همسات ومشاركات
فقد تهيئت قلوبنا قبل صفحات منتدانا
لاستقبال عبق حروفك
وبوح قلمك
وتقبل امنياتي بقضاء أجمل وأسعد الأوقات
وأكثرها فائدة لنا ولك
وأهلاً وسهلاً
أهلاً وسهلاً
بحضورك أشرقت الدار
وبانضمامك الينا
سعدنا كثير وغمرتنا الفرحة
وكلنا شوق لاطلالتك علينا
كل يوم
بحضورك البهي
وما سيجود فيه قلمك
من همسات ومشاركات
فقد تهيئت قلوبنا قبل صفحات منتدانا
لاستقبال عبق حروفك
وبوح قلمك
وتقبل امنياتي بقضاء أجمل وأسعد الأوقات
وأكثرها فائدة لنا ولك
وأهلاً وسهلاً
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدى اللمة الجزائرية :: تعرف على الجزائر من أهلها جزائري : منتدى ثقافى ، سياحي ، تعليمي ، نقاشي ، تطويري ، برمجي ، رياضي ، ترفيهي ، سياسي متخصص بالشوؤن الأسرة.
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخولكل القونين المنتدى

 

 جدلية الزمان والمكان في شعر محمود درويش

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
اميرة الورد
المـديـر العـــام
المـديـر العـــام
اميرة الورد


عدد المشركات : 2601
مستواك : 1672
معدل اليومي :: : 34
تاريخ التسجيل: : 05/01/2010
العمر : 35
الموقع : تلمسان

جدلية الزمان والمكان في شعر محمود درويش Empty
مُساهمةموضوع: جدلية الزمان والمكان في شعر محمود درويش   جدلية الزمان والمكان في شعر محمود درويش I_icon_minitimeالأربعاء نوفمبر 17, 2010 12:40 pm

جدليّة الزمان والمكان في شعر محمود درويش

مقدّمة:


لن تكون السطور أدناه دراسة في شعر محمود درويش، بل محاولة للإجابة على تساؤلاتي الشخصيّة الأولية والبديهية التي شغلتني وتشغلني كلمّا صدرت له مجموعة جديدة: لماذا أحب شعر محمود؟؟ لماذا سكنني وسكنته منذ أن وقعت عيناي على أول جملة قرأتها بقلبي: ‘‘ لأول ضفة أمشي‘‘؟؟
ربما أثناء محاولتي هذه، وأنا أجوب قصائده متنّقلة بين مجموعاته، أي بين أزمنته وأمكنته وشعريته، صاعدة - تارة – من الطبقات السفليّة إلى المعمار الأعلى، وأخرى أجوس بين الغرف والممرات أفقيا، قد أعثر على مكامن الأسباب، وربما يحالفني حظ ما، فأمسك بجوهر، لا أدّعي أنني أول من أبانه وأظهره، ولكنني أكون قلته بطريقتي، كقارئة عاديّة مزودة بفضول المعرفة ولذة الاكتشاف، ومثابرة دؤوبة على تتبّع ذلك المشروع الشعري الشامخ الذي ‘‘أعاد للشعر كرامته‘‘.

لماذا جدليّة الزمان والمكان؟
همي في هذه المحاولة هو رصد جدليّة الزمان والمكان عبر استقصاء تحليلي لنصوص مختارة تبدأ ب‘‘سرحان يشرب القهوة في الكافيتريا‘‘، لأنها - فيما أعتقد
من جانب أول: ثيمة أساسيّة متجذّرة في شعره منذ البدايات وحتى اللحظة الراهنة، وإحدى أهم مكونات شعريّته، ففيها يتمُثل وعي ورؤية وتفسير الشاعر للتاريخ، ومن ثمّ فهمه لتلك اللحظة المفارقة: لحظة الاقتلاع من الأرض ونفي أهلها منها، والتي خلّفت فيه – كما عند شعبه – إحساساً ممضّاً لاينتهي بالظلم الانسانيّ ، الأمر الذي جعله يحسن الاصغاء إلى واقع الحياة، ولإيقاع الزمن فيها وتوقيعه عليها، فيختار – مثلما يفعل المظلومون الذين أخرجوا من حركة التاريخ ورموا على حوافّه – الانحياز إلى الجوهري والانسانيّ والكونيّ، مديراً ظهره مرّة واحدة وحتى النهاية إلى الزبد الجفاء.
ومنذ تلك اللحظة وهو يعيش حالة التوتر هذه، منذ هجرته الأولى خارج المكان – مكانه الأول – صحيح أنه كان أصغر من ان يدرك حجم المأساة / النكبة وأبعادها، لكن من الصحيح أيضاً أنه كفّ عن أن يكون طفلاً منذ اللحظة تلك( 1) مانحة إياه ‘‘حكمة الشيوخ، في سن السادسة، تاركة لذاكرته اختزان مشاهد وصور وتجارب تلك المرحلة، التي ستكون البؤرة لموضوعة الشعرالأول: المكان / الأرض، ومجتمع العواطف البدائيّة: الحنين / الزمان، وثراء عالمه السفليّ ‘‘اللاشعوريّ‘‘.
الجانب الثاني: أنّ هذه الجدليّة الصادرة عن رؤية ورؤيا الشاعر للتاريخ في سيروراته وتمفصلاته وانقطاعاته، وللحياة إذ يصنعها القويّ ويضع موازينها، شكّلت المادة الخام التي أقام فيها بناءً للوطن في اللغة، وحين كان الزمان يوغل في الابتعاد عن مكانه..ويبعثر خرائطه.. ويلغي أسماءه.. ويستبدل عناوينه.. ويشتت صوره ويبهت ألوانها.. كان ذلك الصراع يصبّ في تلك الجدليّة، ويجعلها الدافع الأصليّ الذي يمدّه ب‘‘ذاكرة المكان‘‘ التي صارت ذاكرة‘‘تجمع الشعب وتوحّده‘‘(2)
الجانب الثالث: أنّ لها النصيب الأوفر بخلق ذائقة جماليّة ومعجم شعريّ ثرّ بأسماء المكان وموجوداته: نباتاته وأشجاره وأطياره وروائحه، وبإيحائها التقط عادات شعبه وأكثرها أصالة وتعبيراً عن روح المكان، وأصداءه الموغلة في الزمان.. أصداء تنادي معانيها وتحيي رموزها، وتشكّل في الصور، ومن خلالها، مرجعيّة أواليّة متواشجة بالواقع الراهن على الرغم من فجائعيّة المشهد: عادات الأهل في الريّ والزراعة، دروس البيت، رائحة الخبز في الفجر، قهوة الأم،ومن ثمّ أسطرة المكان من إحياء تموز وعناة والكنعانيّة، تخيّر أسماء الشهداء والناس والأنبياء بدلالة أكيدة على انتماء المكان إليهم: أحمد العربي، خديجة، المسيح وصليبه، يوشع بن نون( ليس الماضي بالنسبة للشاعر زماناً منقضياً، أو ذكرى ميتة لايمكن استعادتها، أو بعث الحياة في رمادها المتجهم، بل هو على العكس من ذلك تماماً، حيوات متفرّدة وطاقة روحيّة جيّاشة، وهو أيضًا زمن يكتظّ بالدلالة والغنى والتوتر) (3)
الجانب الرابع: لأن مأساة الشاعر ولدت مع مأساة الوطن فكانتا واحداً، ولأنّ ذاكرته اختزنت تلك اللحظة الكارثية وهي ما تزال طريّة غضّة، فقد صار صوته صوت شعبه أوصداه، وحتى في القصائد التي يصغي فيها إلى همومه الصغيرة وحبّه الشخصيّ وطموحات قلبه، فإننا سرعان ما نجد أرض الجماعة وقد تسلّلت إليه من لا شعوره وزوايا داخله القصيّ، ذلك أن الفارق بين داخله وخارجه يكاد لا يوجد، ليس لأنه يتماهى مع الجماعة بمشاعر القطيع – كما يحاول الغمز أحد المشغوفين بالعزلة والاعتزال عن الجمهور – بل – وتحديداً – لأنه يحسّ بفرديّته وعلى نحوٍ حاد، هذه الفرديّة التي لا تتحقّق إلا بكونها مجبولة بواقع الأمة فاعلة فيه كاتبة لتاريخه ومستنهضة لهما من الرماد: هذا هو الشاعر / الشجرة التي تخرج نباتها طيباً بإذن الله، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا... وإذا كان قد نفذ ببصيرته إلى جوهر المأساة، وانحاز دائماً إلى صواب قلبه: ففتح نصه على جهات الأمل في استعادة المكان / مكانه، فالألم وتصاعد اليأس كانا يأتيان من تسرّب الزمان وهروبه وتصدّع الواقع وتردّيه، فتزداد الهوة بين الزمان والمكان، وهذا هو الألم الأكبر، نحن مع شاعر يترجح بين هاويتين: فإما الصعود وإما.. الصعود
في قلب هذه الجدليّة عاش الشاعر، ومن هذه الثيمة، وفي تمظهراتها: تصويراً وإيقاعاً ومجازاً ومعان دلاليّة وصلنا الشعر في محتواه الأهم: العاطفة، والغنائية، الحاملتان للرؤيا فيما يتعلّق باستشراف المستقبل، والرؤية فيما يخص التاريخ والواقع، العاطفة الغنائية التي تسري إلى المتلقي ‘‘ كما هي في خصوبتها‘‘، وحرارتها لا تجعله يقف عند تخوم النص، بل تضعه في قلب عمليّة الخلق، قارئاً يملأ الفجوات ومساحات البياض والمسكوت عنه، ومؤوّلا يكشف طبقات المعاني، ويقبض على الدلالات، دون ان يكون مضطرا إلى ‘‘ قتل المؤلّف‘‘.

سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا
(أحبك أو لا أحبك 1972)

سئل محمود درويش مرة عقب خروجه من فلسطين وإقامته في القاهرة: كيف تخرج من فلسطين وأنت القائل:
وأبي قال مرة
الذي ماله وطن
في الثرى ماله ضريح
ونهاني عن السفر
فأجاب: غيّرت موقعي، ولكنني لم أغيّر موقفي
لقد اخترت البدء من هذه القصيدة لأنها بداية التحّول من‘‘الصوت الأحادي حاد النبرة مباشر ومقاتل(1) إلى القصيدة التي صنّفها النقاد على أنها‘‘غنائيّة دراميّة‘‘(2) وذلك ‘‘لتعدد الأصوات فيها وتعدّد السرديات التاريخية الموضوعيّة والتاريخية الذاتية، والغناء، والمونولوج، والديالوج، وهي القصيدة التي استبدلت بالزمان المستقيم، الزمان الدائريّ الذي يكسر الترتيب الثلاثي للزمن‘‘(3)، هو نص إذن يختزن ما اقترحته من فرضية أن هذا الشعر عاش حياته في قلب ذاك الصراع الجدليّ، ومنذ البدايات كما تنبئنا الأبيات السابقة ودراسات النقاد حول هذه القصيدة / التحوّل.
يفتح درويش قصديته في المقطع الأول على مشهد خارجيّ مبعثر، تتناثر فيه الأشياء دون ترتيب، وتجتمع المتناقضات وتتقابل دون منطق يجمعها في فوضى ظاهريّة تتبطّن على حدث مأساويّ سيولد فيه سرحان ثم يكبر، وتتّخذ حياته شكلاً لهذه المأساة:
يجيئون،
أبوابنا البحر ، فاجأنا مطر ، لا إله سوى الله ، فاجأنا
مطر ورصاص ، هنا الأرض سجادة ، والحقائب
غربة!!
بالفعل المضارع الحاضر المسند إلى ضمير الغائب تفتتح القصيدة، ثمّ تتوالى الجمل الإخبارية، فعليّة وإسميّة، لينتهي المقطع بكلمة غربة التي كتبت مشفوعة بعلامتي تعجب في سطر وحدها. هذا السرد الذي اتخذ فيه الشاعر موقع الراوي من النقطة التي تقف فيها الشخصيّة المرويّ عنها، من دون تحديد للإحداثيات المكانيّة والزمانيّة واستطراداً، من دون منظور للعلاقات بينهما القائمة على اللغة بين الراوي / الشاعر، والحدث الموصوف، فبقيت ملتبسة، وغامضة، غارقة في فوضى الرؤية ومتناقضات المشهد: الأبواب رمز للإغلاق، للسريّة، للأمان، للكينونة، للثبات للحدود بين الداخل والخارج، فإذا بها ليست سوى البحر رمز التحوّل، الانفتاح حتى اللانهاية، المجهول، الخطر، المطر رمز الخصوبة والحياة والنماء مع الرصاص رمز الموت والفناء، الأرض رمز الثبات والحضورصارت سجادة تستدعي صور الطي والغياب والترحال، اما مفردة غربة فقد كتبت في سطر وحدها للدلالة على / وإشارة إلى مركزيتها في القصيدة، ويبقى الفعل ‘‘يجيئون‘‘ معلّقاً يسحبنا معه إلى تفاصيله، هذا الغموض يخبئ طيّه إرهاصات حدث مأساوي يتضح شيئاً فشيئاً كلما توغلنا في عالم سرد الحكاية / القصيدة.
يتتابع سرد الحكاية بصوت الراوي / الشاعر وهنا يبدأ بالبروز أكثر فأكثر زمن المبنى الحكائي أي زمن السرد ويتعلّق بالسؤال: متى أنتج الخطاب: أقبل الحكاية أم بعدها؟ من المفيد هنا أن نستذكر نوعي الزمن الذي ميّزه الشكلانيّون الروس وهما:‘‘زمن المتن الحكائي(زمن الأحداث) وهو زمن موضوعي تاريخيّ، وزمن المبنى الحكائي وهو زمن السرد(1) والخطاب الشعري هنا يركّز على زمن المبنى ليترك السؤال مفتوحاً حول زمن الخطاب.

يجيئون،
فلتترجّل كواكب تأتي بلا موعد والظهور التي
استندت للخناجر مضطرة للسقوط.
وماذا حدث ؟
أنت لا تعرف اليوم، لا لون، لا صوت، لا طعم
لا شكل... يولد سرحان، يكبر سرحان،
يشرب خمراً ويسكر، يرسم قاتله، ويمزّق
صورته. ثم يقتله حين يأخذ شكلاً أخيرا. ويرتاح سرحان .
سرحان! هل أنت قاتل ؟
ويكتب سرحان شيئاً على كم معطفه، ثمّ تهرب
ذاكرة، من ملفّ الجريمة... تهرب... تأخذ منقار طائر،
وتأكل حبّة قمح بمرج بن عامر.
وسرحان متّهم بالسكوت. وسرحان قاتل
لنلاحظ سرعة السرد وآليّة التلخيص التي لجأ إليها ليستكمل صورة سرحان ضمن الإطار المكاني الذي يسترجع فيه الأحداث: فالذين يجيئون مازالوا يجيئون لا نعرف من هم ولا إلى أين يأتون، ولكن مسرحاً / مكاناَ لمأساة قادمة بدأ يظهر في صور متلاحقة: الكواكب تترجّل، والظهور التي كانت مستندة إلى الخناجر تسقط، ولا لون، لا صوت، لا طعم ولا شكل‘ في هذا الهباء يولد سرحان، ويكبر، وتتخذ حياته شكل الزمان / الهباء والمكان / المأساة / المنفى حيث لم تعد له هوية، يقتل سرحان قاتله بعد أن يحدّد شكله(يرسمه) ثمّ يمزّق الصورة. في هذه البرهة تتحرّر الذاكرة وتهرب من المكان / الآني / الحاضر/ المنفى، مكان ارتكاب الجريمة إلى مكانها الأصليّ / التاريخيّ (مرج بن عامر) تهرب إليه بمنقار طائر الذي لا يضلّ طريق العودة أبداً إلى موطنه، حاملاً معه ذاكرة سرحان في رحلة استعاديّة، وحين يوطّئ الراوي / الشاعر بجملة‘‘وماذا حدث‘‘لهذه الحياة، يوحي لنا بأنها مجرد حادثة هامشيّة لحياة هامشيّة مغيّبة عن الفعل في المصير، لذلك نجده يختزل الزمان في مجموعة من الأفعال الماضية التي تختصر تاريخ حياتها: ولدت، كبرت، شربت خمراً، ثم قتلت، قتلت من صادر منها شروط الحياة الطبيعيّة غيلة منحرفة بالتاريخ عن مساره، ورامية بناس المكان خارجه.

المقطع الثاني:

يمتد المقطع الثاني على ثلاث صفحات، يتوارى صوت الراوي ليظهر صوت الشاعر مدُخلاً نفسه في قلب الرواية، تتغيّر نبرة اللغة لتصبح أكثر توتّراً وكثافة، ويتداخل الحدث النفسيّ والزمن الشعريّ، مع الحدث الواقعي الدراميّ، ليتبادلا التأثير ببعضهما في جدل رائع تبلغ الشاعريّة فيه ذروتها من حيث قبضها على سيولة الزمن وجريان الحياة الخطيّ الذي يتسرب ليكرّس واقعاً جديداً، ومنفىً داخل الوطن، ويصبح سرحان ‘‘قناعاً‘‘ للشاعر:

وما كان حباً
يدان تقولان شيئاً وتنطفئان
قيود تلد
سجون تلد
منافٍ تلد
ونلتفّ باسمك
وما كان حباً
يدان تقولان شيئاً وتنطفئان
ونعرف، كنّا شعوباً، وصرنا حجارة
ونعرف، كنتِ بلاداً وصرت دخان
ونعرف أشياء أكثر
نعرف، لكنّ كل القيود القديمة
تصير أساور ورد
تصير بكارة
في المنافي الجديدة
ونلتفّ باسمكِ
وما كان حبّاً
يدان تقولان شيئاً وتنطفئان
مرّة أخرى لا نجد تعييناً لزمان ولا لمكان، لكنّ جملاً قصيرة متتابعة، ولغة كثيفة حملت ضمير المتكلّمين: ‘‘كنا، صرنا، نعرف، نلتف،‘‘جسّدت المحتوى المكاني عبر استعارات متوالية تشير إلى ما يدلّ عليه دون تسميته، وتلتقي دلالاتها جميعاً في معنى الغياب، فالوطن الذي كان حاضراً يبتعد ليخلّف فضاءً مسكوناً بالقيود تلد القيود، والسجون تلد السجون، والمنافي تلد المنافي، ووسط هذا المحتوى المكاني المغلق، ترد الاستعارة المركزيّة‘‘نلتفّ باسمك‘‘ كفعل يمثّل الملاذ الأخير يلجأ إليه إنسان هذا المكان ليدرأ عنه الغياب المطلق، ولتبزغ من هذه الاستعارة – بما تستدعيه من معان صوفيّة تستدعي بدورها روح المكان- نقطة مضيئة تكسر هذا الانغلاق، لتصير القيود القديمة ‘‘أساور ورد وبكارة‘‘ .. ولكن سرعان ما تنطفئ بانطفاء اليدين
وفي السطر الشعري الأخير، يتوارى الشاعر بعد أن استنفد مونولوجه بلغته الغنائيّة العالية، ليظهر الراوي من جديد فيكشف لنا جانباً أخر من شخصيّة سرحان: سرحان ولد في الشتات(من نسل تذكرة) ولم يعرف بلاده يوماً، وليس له ذاكرة مرتبطة بالوطن، ولنلاحظ أنّ التناوب بين صوت الراوي وصوت الشاعر أدخل القارئ في عمليّة إدراك التنافر المكانيّ / الزمانيّ باعتباره الدليل على تغيّر الإحداثيّات، وليس بدون دلالة أن المقطع ينتهي إذ يفجّر سرحان غضبه ويتمرّد فيتّهم بالشذوذ عن القاعدة.

في هذا المقطع يتماهى الشاعر مع الراوي مع سرحان، فالجميع يتقاسمون مأساة واحدة ( ضياع الوطن) سواء في ذلك أهل الداخل أم الخارج:

رأينا أصابعه تستغيث. وكان يقيس السماء بأغلاله.
زرقة البحر يزجرها الشرطيّ، يعاونه خادم آسيويّ
بلاد تغيّر سكانها ، والنجوم حصى.
وكان يغنّي: مضى جيلنا وانقضى
مضى جيلنا وانقضى.

وتناسل فينا الغزاة، تكاثر فينا الطغاة، دم كالمياه،
وليس تجفّفه غير سورة عمّ وقبّعة الشرطيّ
وخادمه الآسيويّ، وكان يقيس الزمان بأغلاله
سألناه: سرحان عمّ تساءلت؟
قال: اذهبوا فذهبنا
إلى الأمهات اللواتي تزوّجن أعداءنا.
وكنّ ينادين شيئاً شبيهاً بأسمائنا
فيأتي الصدى حرساً .
ينادين قمحاً .
فيأتي الصدى حرساً .
ينادين عدلاً
فيأتي الصدى حرساً
ينادين يافا
فيأتي الصدى حرساً
ومن يومها، كفّت الأمهات عن الصلوات، وصرنا
نقيس السماء بأغلالنا
وسرحان يضحك في مطبخ الباخرة
يعانق سائحة والطريق بعيد عن القدس والناصرة
وسرحان متّهم بالضياع وبالعدميّة
المشهد هاهنا شديد السواد يتّضح من خلال التضاد: السماء – على اتساعها تقاس بالأغلال، وزرقة البحر تتراجع أمام قبّعة الشرطيّ، والبلاد التي غيّرت سكانها الأصليين، صارت نجومها حصىً ، وإذا كان هذا هو حال المكان، فلا أمل يأتي من الأهل في الخارج، فالغزاة يتناسلون.. والطغاة يتكاثرون.. ليصبح الزمان أيضاً يقاس بالأغلال، وليس عند سرحان / الشاعر / الراوي سوى إجابة واحدة يردّ بها على فضول الناس: لاشيء ولا أمر سوى الحرس يطوّق المكان، والأمهات يستغثن: للخبز وللعدالة، ويغلق المشهد على سرحان المتهم ب‘‘الضياع وبالعدميّة.

وكلّ البلاد بعيدة
شوارع أخرى اختفت من مدينته( أخبرته الأغاني)
وعزلته ليلة العيد أنّ له غرفة في مكان)،
ورائحة البن جغرافيا
وما شردوك... وما قتلوك .
أبوك احتمى بالنصوص، وجاء اللصوص .
ولست شريداً ولست شهيداً .
وأمك باعت ضفائرها للسنابل والأمنيات: وفوق سواعدنا
كرمة لا تهاجر( وشم عميق)
خطى الشهداء تبيد الغزاة
(نشيد قديم)
ونافذتان على البحر ياوطني تحذفان المنافي... وأرجع
(حلم قديم)
شوارع اختفت من مدينته( أخبرته الأغاني
وعزلته ليلة العيد أنّ له غرفة في مكان) .
ورائحة البن جغرافيا
ورائحة البن يد
ورائحة البن صوت ينادي... ويأخذ ويأخذ
ورائحة البن صوت ومئذنة (ذات يوم تعود).
ورائحة البن ناي تزغرد فيه المزاريب . ينكمش
الماء يوماً ويبقى الصدى .
وسرحان يحمل أرصفة ونوادي ومكتب حجز التذاكر .
سرحان يحمل أكثر من لغة وفتاة . ويحمل تأشيرة
لدخول المحيط وتأشيرة للخروج . ولكنّ سرحان
قطرة دم تفتّش عن جبهة نزفتها.. وسرحان
قطرة دم تفتّش عن جثّة نسيتها.. وأين؟
ولست شريداً.. ولست شهيداً
ورائحة البن جغرافيا...
وسرحان يشرب قهوته...
ويضيع..
عودة أخرى إلى تداخل المونولوج الغنائي النبرة مع صوت سرحان الذي يتبناه الشاعر / الراوي ويكمل حكي قصته عنه، وقد يكون التطابق هنا كاملاً، وما سرحان إلا قناع الشاعر(استعادته لتجربته الشخصيّة في سجنه الإجباري في منزله بيافا من المغيب وحتى الفجر، قضاء ليلة العيد وحده)، الزمان والمكان ينأيان معاً، فبضياع الوطن تبدو كل البلاد بعيدة ذهنياً ونفسيّاً وروحيّا، وإذ يستعيد تلك الذكرى عن حياته يستحضربعضاً من تفاصيل صورة الوطنً عبر مرويّات جدّته وأغاني شعبه،وتكون الاستعارة هي سيّدة المشهد، والبناء الإيقاعي المغاير للمقاطع السابقة بجمله الطويلة التي اتّسعت لتحتوي الفيض العاطفيّ للشاعر وهوإذ يستعيد ذكريات منفاه في الوطن، تنشب رائحة البن ذكراها في مخيّلته وتنتشر لتصير ‘‘جغرافيا‘‘وتصطحب معها ما كان يرافقها من أنس البيت، وحكايا الجدة، وأغاني المكان، وتتحوّل إلى وشم عميق لا يزول، تكرّسه سواعد الفرسان الذين سيستعيدون الوطن، برهة من وهم، تمحوها حقيقتان مريرتان: الأب / الشعب الذي اكتفى بالحق دون تسليحه بالقوة التي تحقّقه( النصوص)، واللصوص الذين تسللّوا من غياب الفعل فسرقوا الوطن، والنتيجة شعب ميت / حي‘‘ولست شريداً.. ولست شهيداً‘‘
أتوقّف قليلاً عند الاستعارة التي ألّفها الشاعر لرائحة البن، تلك الاستعارة المبتكرة والرائعة – وهي هنا استعارة مركزيّة تشكّل بؤرة دلالات – تتعدّى فكرة الانتشار المكاني / الزماني، فالذاكرة قادرة على اختراق الزمن واستحضار مكانه وتكثيفهما في رائحة.. رائحة القهوة، لتعيد بناءهما بقوة الذكرى إلى أشياء حسيّة: يد، صوت، مئذنة، ناي، على أنّ الزمن الشعريّ الذي جسّدته له مرجعيّته الواقعيّة وأحداثه الموضوعيّة ، لهذا نجد مجموعة من الأفعال الزمنيّة قد تتالت بعد الاستعارة( وما شردوك.. وما قتلوك، أبوك احتمى، جاء اللصوص، أمك باعت)، وجميعها أفعال تختزن المأساة وتختزلها في آن، لينغلق المشهد على مفردة ‘‘الصدى‘‘ التي نسمع من حروفها ترجيعاً لأنس المكان ودفء البيت وطقوسه، وما سرحان إلا صدى الشاعر، صورته في المنافي، إنه يتحدّث عن نفسه وهو يصور سرحان تتلقاه الأرصفة في رحلة البحث عن الهوية هو: الميت / الحي الضائع.

هنا القدس .
يا امرأة من حليب البلابل كيف أعانق ظلّي ..
وأبقى
خلقتَ هنا ، وتنام هناك
تتوالد الدلالات من الانتقال بين الأنا والمخاطب والغائب للتأكيد على الالتحام والتغاير في الآن نفسه، وحيث يرتفع النشيد بالغناء تكون أنا الشاعر طاغية الحضور وفي ذروة انفعالها، ويكون لغنائه وظيفته البنيوية، من حيث تغايره الايقاعي وتوتره العاطفيّ، عن لغة سرحان، هذا التغاير الذي يتبدى في تقديم التساؤل: كيف أعانق ظلّي وأبقى؟
وسرحان حين يدخل نشيد الشاعر، تطفو دلالات الغربة والمنفى، فهو غريب حتى عن ذاته، لايعرف لنفسه هوية، لا يقرأ لغته، ولكنّه يتذكر الطائرات، وقنابل النابالم، وهنا تنزاح لغة الشاعر الغنائية، لتفسح المجال للغة تقريريّة تحكي حالة الواقع العربي، الذي يمتطي القدس ناقة كي يصل إلى السلطة الجائعة، ولم يعد سوى منبراً للخطابة، ومستودعاً للكآبة
وما القدس والمدن الضائعة
سوى ناقة تمتطيها البداوة
إلى السلطة الجائعة
وما القدس والمدن الضائعة
سوى منبر للخطابة
ومستودع للكآبة
وما القدس إلا زجاجة خمر وصندوق تبغ
تستعيد اللغة غنائيتها حين يذكر الوطن، ومرة أخرى ندخل المكان والزمان الشعريان: فلا فرق بين تفاصيل المكان الواقعي: ‘‘حقل الذر‘‘ و‘‘تجاعيد كفه‘‘ وبين ‘‘عصير الفاكهة‘‘ و‘‘كريات الدم‘‘ وبين المساء الذي ‘‘يسكن الذاكرة‘‘ و‘‘مساء الكرمل‘‘، لكن السؤال الوجودي يطرحه الشاعر / الراوي / سرحان: كيف يستعاد وطن بالأغاني؟ ويتابع سرحان عيشه في الضياع:
من الصعب أن تعزلوا
عصير الفواكه عن كريات دمي
ولكنها وطني
من الصعب أن تجدوا فارقاً واحداً
بين حقل الذرة
وبين تجاعيد كفي
ولكنها وطني
لافوارق بين المساء الذي يسكن الذاكرة
وبين المساء الذي يسكن الكرملا
ولكنها وطني
وسرحان يرسم صدراً ويسكنه
وسرحان يبكي بلا ثمن ووسام
ويشرب قهوته ويضيع


في المقطع التالي يستكمل الشاعر حكاية سرحان الباحث عن هويته في الزمان الضائع، الزمن العربي الذي لا يريد الخروج من ‘‘ضجيج الفراغ‘‘وضجيج البيانات والتوصيات، وفصاحة اللغة والأغنيات، الخارج من الفعل، والتارك للقادمين من الأسطورة سرقة الماضي والحاضر جميعاً، يختبئ الشعر في لغة تبدو نثريّة، إنه‘‘ ينثر الشعر‘‘ ليعطي للسرد الحكائي حقّه
‘‘هل الفعل معنى بآنية الصوت.. أم حركة؟
ونكتب ض...
هدير المحيطات فيها ... ولا شيء فيها
حروف تميزنا عن سوانا – طلعنا عليهم طلوع
المنون فكانوا هباءً وكانوا سدى، سدىً نحن
ولكن الشاعر، لا يستطيع المكوث طويلاً في مشهد اليأس ذاك، إنه ابن الأمل وصواب القلب، إنه ‘‘يرى‘‘يستطيع أن يقرأ في قلب هذا الواقع المتردي إمكانية الخروج منه
هنالك
غيم شديد الخصوبة. لابدّ من تربة صالحة.
وهو يكرّر مفردة ‘‘الحلم‘‘ ويربطها بالجليل – وطنه – ويستخدم علامات الوقف بكثرة، فنجد النقطة حيث التقرير، والنقطتان حيث الإيهام بزمان ممتد
أكلت.. شربت.. نمت.
يأخذ الامتداد السردي المكثّف مساحة بصريّة على بياض الورق، من دون وجود لمساحات صمت، وبخاصة في الجزء الثاني منه، حيث تطالعنا النقطة، والفاصلة علامة وقف قصيرة واتصال تساعد على استمرار التوتر بين الاتصال والانفصال، لقد اختار الموضوع شكله وتمّ التلاحم بينهما: الشكل جسد لمعناه، وعنصر أساسي في بناء النص.
وفي ‘‘رؤياه‘‘ و‘‘حلمه‘‘ نجد إرهاصات واقع جديد سنشهد تفجره في ‘‘يوم الأرض‘‘ وفيه سيكتب درويش نشيد إنشاده قصيدة ‘‘الأرض‘‘


يسدل الشاعر الستار في المقطع الأخير على سرحان وهو يكتب شيئاً على كم معطفه محرّراً ذاكرته التي يأخذها منقار طائر ويزرعها قطرة دم في ‘‘مرج بن عامر‘‘في عود على بدء، وفي دلالة أن المشهد الفلسطينيّ لم يتغيّر: فالضحيّة متهمة بالقتل – أو الإرهاب في لغة الآن – والضحيّة مجهولة الهوية‘‘فقيرة‘‘ ومختلفة عن ضحية تاريخ أخرى ظلّت تبتزّ قاتلها لدفع الأثمان، ثمّ قلّدته في صنع ضحية تاريخ جديدة لكنّها زاهدة في عموم أنواع الاستعراض مدفوع الثمن وهذا اختلافها

سرحان ما قال جرحي قنديل زيت وما قال
صدري شبّاك بيت وما قال...
جلدي سجّادة للوطن
وما قال شيئاً
وسرحان ضحيّة الحرب وضحيّة السلام، وضحيّة العرب في المهاجر الرازحين تحت وطأة المستبدين الطغاة وبين الغزاة والذين لايجدون فارقاً بينهم
وفي المهجر
العربي يقولون: ما الفرق بين الغزاة وبين الطغاة ؟
وسرحان ما يزال يشرب قهوته التي تأخذه رائحتها إلى الوطن الذي لا يعرف، وبين الجمل التقريريّة يدخل التساؤل:

أتذهب صيحاتنا عبثاً
ويضيع سرحان، يقتل صورة قاتله، ويستعيد ذاكرته التي تذهب قطرة دم إلى‘‘مرج بن عامر‘‘
يتشظّى الزمان والمكان ليسكن اللحظة الحاضرة – الآن – (( آن)) القصيدة، زمن كتابتها، فيصبح الحاضر نتاجا للماضي، وحين يقبض سرحان على وعيه ويحرّر ذاكرته يرى‘‘غيماً شديد الخصوبة‘‘ ويذهب إلى المستقبل ‘‘قطرة دم‘‘تنقط في ‘‘مرج بن عامر‘‘
درويش الذي لا يخضع قصيدته – نصّه - لمنهج مسبق، بل يتركها تصنع إيقاعها، وهو الشاعر الحرفي المتمرس، لا يفعل سوى أن ‘‘ يتبع ذلك الإيقاع‘‘ ويترك توقيعه في نهايته.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
جدلية الزمان والمكان في شعر محمود درويش
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» محمود درويش
» عن محمود درويش
» جدارية محمود درويش
» الصورة الفنية في شعر محمود درويش
» السر في حياة محمود درويش

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: -,.-~*'¨¯¨'*·~-.¸¤~°*¤ô§ô¤*~( مـــنــتديــات الــــــمــواد الـــدراســـيــة )~*¤ô§ô¤*°~¤,.-~*'¨¯¨'*·~-.¸- :: منتدى مواد اللغة العربية-
انتقل الى: